
تستور – تونس
من 3 إلى 5 أكتوبر 2025 تستعيد مدينة تستور جزءًا من ذاكرتها المدجنة عبر دورةٍ ثالثةٍ لمهرجان التراث الأندلسي، الذي تنظمه جمعية «تراث تستور» بالتعاون مع مؤسسات ثقافية وأكاديمية. تحتفي الدورة بالارتباط التاريخي والثقافي بين شواطئ إيبيريا وشمال أفريقيا، وتعرض خريطةً من الأنشطة تمزج بين المعارض والورشات في فضاءات المدينة المفتوحة، والكرنفالات الشعبية، والسهريات الموسيقية، واللقاء العلمي الذي يفتح جُسور الحوار بين الباحثين والممارسين.
تستور، ببيئتها المعمارية وممارساتها الاجتماعية، تُعد شاهداً حيّاً على تواصل امتدّ عبر قرون. حملت موجات الهجرة الأندلسية والموريسكية إلى سواحل تونس خلال القرنين الخامس عشر والسابع عشر عناصرَ ثقافيةً، ظهرت بصور متعددة داخل النسيج المحلي: منازل بيضاء ذات نوافذ خشبية، زوايا وأسواق تقليدية، وأنماط زخرفية تشي بأصول متوسّطية واضحة. هذه الملامح ليست مجرد بقايا أثرية، بل أفقٌ يومي يتجلّى في الاحتفالات والموسيقى والحرفة، والمهرجان يقدّم فرصة لرؤية هذا التراث كقوة حية تواصل التأثير داخل المدينة والمحيط الإقليمي.

يفتح البرنامج في الثالث من أكتوبر مع معارض وورشات تقام في مدخل المدينة وساحات مقهى الأندلس، حيث تُعرض منتجات حرفية وقطع تراثية ومواد مرئية توثّق ممارسات الصنعة التقليدية. الورشات، التي تستهدف جمهورًا متنوعًا من الحرفيين إلى طلاب المدارس، تتناول مهارات الخط والزخرفة والآلات الموسيقية التقليدية وفنون الطهي الأندلسي، فتجعل من الفضاء العام صالونًا ثقافيًا تلتقي فيه الخبرة القديمة مع فضول الأجيال الجديدة. إن منعطفات المدينة في أيام المهرجان تتحول إلى منصات للتعلّم العملي؛ زوار المهرجان لا يكتفون بالمشاهدة، بل يُتاح لهم التعرّف على تقنيات الحفظ اليدوي وإعادة إنتاج بعض القطع التقليدية ضمن ورش مباشرة.
يوم الرابع يحمل طابع الاحتفال في فضائه العام، حيث ينطلق كرنفالٌ نهاري يجوب الشوارع من الرابعة وحتى السادسة مساءً، في مشهدٍ يذكّر بمواكب الفرح الأندلسية. يحتضن هذا العرض عناصرً من الأزياء والزخارف والنقلات الموسيقية التي تُعيد تشكيل الحس الجماعي للمدينة، وتحوّل الشوارع إلى فضاءٍ للتلاقي بين السكان والزوار. ومع غروب الشمس تتجه الأنظار إلى مسرح الهواء الطلق حيث تقام سهرة موسيقية من الساعة الثامنة والنصف حتى الحادية عشرة ليلاً، يشارك فيها فنانون محليون وضيوف من خارج المدينة، مقدِّمين حفلة تجمع بين مقاطع من المالوف الأندلسي وأشكال فنية مستمدة من التراث المحلي؛ ألحان تحمل مقامات متداخلة وإيقاعات تسمح بالانتقال بين حالات التأمل والفرح، مصحوبة بأصوات الآلات التقليدية التي تُكوّن طيفًا صوتيًا مميّزًا يربط بين الحاضر والماضي.
يوم الخامس يُكرَّس للبعد الفكري والبحثي، حيث تُعقد ندوة علمية في دار «ابن زيدون» تمتد من التاسعة صباحًا إلى الواحدة ظهرًا، وتضمّ جلسات متخصصة تتناول جوانب متعددة من حضور الأندلس في تونس. البحث في أثر الموريسكيين على العمران والفنون يفتح نافذة لفهم كيفية انتقال أنماط البناء والزخرفة والفضاءات العامة من ثقافةٍ إلى أخرى، وكيف تحوّلت هذه العناصر إلى مكونات أساسية في الهوية العمرانية لتستور. كما تُركز جلسات الموسيقى والأنثروبولوجيا على دور المالوف كنسقٍ جمالي واجتماعي؛ المالوف هنا لا يُنظر إليه بوصفه شكلاً فنيًا منعزلاً، بل كمنظومة تواصلية تغذِّي مناسبات الحياة، من الاحتفالات الطقسية إلى التجمعات المدنية، وتقوم على مقاماتٍ موسيقيةٍ وإيقاعاتٍ خاصة تؤديها فرق متخصصة تضم العود والقانون والناي وآلات الإيقاع وأحيانًا أصواتاً جوقة منظمة. البحوث المقدّمة تناقش آليات النقل الشفهي للمعرفة الموسيقية، وأساليب التدوين والتسجيل التي جرى تبنيها للحفاظ على النمط الصوتي واللحن المتوارث.
ضمن مسارات الندوة تحضر شهادات محلية حية عن تجارب رموز المالوف في تستور، وعلى رأس هذه الشهادات تبرز إشارات إلى الشيخ محمد بن إسماعيل (1905–1984) ودوره في تأسيس فرقة المالوف المحلية. تُروى قصص عن لقاءاته، عن جلسات التدريب الجماعي التي نظمها، وعن مساهمته في جعل المالوف مكوّنًا من مكوّنات الذاكرة الموسيقية للمدينة. كما يُعرض خلال الندوة نمطُ التفاعلات بين المؤسَّسات المحلية والهيئات الثقافية في توثيق هذه الذاكرة، وكيف تحوّلت التجمعات الموسيقية إلى مراسمٍ حاضنةٍ للمهارات والطرق العملية للحفظ.
جانب التكريم يشكّل لحظةً إنسانية في المهرجان؛ يُحتفى برواد المالوف والمساهمين في صون الثقافة الأندلسية، ويُمنحون مساحات للتحدث عن تجاربهم، ولتقديم مقاطعٍ صوتيةٍ توثّق بصمتهم. تكريم هؤلاء الروّاد لا يقتصر على حفل رمزي، بل يتحوّل إلى درس حيّ في كيفية بقاء فنٍّ عبر أجيال، وكيف ترتبط الشخصية الفنية بالمجتمع الذي يتلقاها ويعيد إنتاجها.

في أيام المهرجان تتداخل الفنون مع اقتصاد المدينة؛ الأسواق التقليدية تُنشط بعرض منتجات حرفيةٍ ومأكولاتٍ محليةٍ ترتبط بموروث المنطقة، والمقاهي تستقبل جلسات حوارية ومحاضراتٍ مصغّرةً، ما يجعل من الفعالية حدثًا متعدد الوجوه يستقطب جمهورًا متنوعًا من المهتمين بالتراث، والسياحة الثقافية، والعائلات المحلية والزوار من خارج الجهة. تساهم هذه الديناميكية في تعزيز حضور تستور كوجهةٍ ثقافيةٍ في الخريطة الوطنية، وتؤكد قدرة الفعاليات التراثية على خلق لحظاتِ لقاءٍ بين المحلي والعابر.
في قلب هذا المشهد يقف ورش العمل الموجّه للشباب والأطفال كعنصر أساسي لضمان ربط الحاضر بمستقبلٍ متصل بالهوية. من تعلم الخط الأندلسي إلى تجارب الطهي التي تُعرّف النشء بطبخاتٍ تحمل جذورًا مشتركة، ومن تدريب على آلاتٍ موسيقيةٍ صغيرة إلى عروضٍ مسرحيةٍ قصيرة، تُفسح هذه الأنشطة المجال لتنشئة جمهورٍ واعٍ ومشاركٍ يستوعب قيمة التراث ويكتشف طرق التعبير المعاصرة عنه، دون أن يفقد الصلة بأصله.
ختام المهرجان يُحيل إلى فكرة الاستمرارية؛ سهرة ختامية أخرى تُقام على مسرح الهواء الطلق مساء الخامس من أكتوبر، تحمل في طيّاتها مزيجًا من تأويلات الفرق الموسيقية المحلية ولقطاتٍ فنيةٍ تعكس تنوّعًا ثقافيًا حافظت عليه المدينة عبر العقود. المشهد العام للمهرجان يقدّم اختبارًا عمليًا لكيفية تجسيد الذاكرة في فعل ثقافي متكامل، يجمع بين التعلم والمشاهدة والاحتفاء، ويعرض التراث الأندلسي في صيغ تجعله حضورًا يوميًا في الحياة الاجتماعية لتستور.
تستور، من خلال هذه الدورة، تؤكد مرةً أخرى أنها ليست مجرد متلقٍ لتاريخٍ بعيد، بل فضاءٌ حيّ تتوزع فيه إرثيات الأندلس بين الشارع والقاعة، بين السند والسماع، لتبقى ذاكرة المدينة راسخة في أشكال الاحتفال والبحث والممارسة. المهرجان ليس نهايةً لعمليةٍ تاريخية، بل محطةٌ سنويةٌ تُجدد فيها المدينة عهودها مع تراثٍ شكّل جزءًا لا يتجزأ من هويتها.