سياسةمحلية

الإعلام في نظر السلطات التونسيّة: إمّا أن تكون بريئا.. أو صحفيّا!

انتهاء الاستثناء وعودة الديمقراطية والبرلمان، أم هي بداية استثناء في مسار استبدادي؟ هذا السؤال الذي وجب علينا طرحه ونحن نقف على أطلال الديمقراطية أو ربما أطلال العشرية السوداء كما يصفها البعض، قريبا من المراسيم سيئة الذكر والخطابات المسقطة وبعيدا عن فتح ملفات الفساد واصلاح الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية.

لا يمكننا التسليم أن مسار ما قبل 25 جويلية 2021 هو مسار صحيح بقدر ما يحتويه من فساد وفوضى دفعت بفئة كبيرة من التونسيين إلى المطالبة بوضع حد له، ولكن في نفس الوقت لا يمكن أن نقول بأن المسار الصحيح هو الذي تسير فيه بلادنا اليوم بتكريس قطيعة بين الراي العام والسلطة وبغلق كل أبواب التواصل والمساءلة.

النخبة في تونس تقف على أطلال الديمقراطية

لا يختلف حال النخبة التونسية اليوم كثيرا عما هو منقول من التراث العربي، وتحديدا في عصر الجاهلية، نعم وضعية النخبة التونسية اليوم لا تختلف كثيرا عن وضعية الشاعر الجاهلي امرؤ القيس ، وعن أشهر وقفاته الطللية التي نقلنا اياها  في معلقته عندما قال ” قفا نبكي من ذكر حبيب ومنزل  بسقط اللوى بين الدخول فحومل”.

في تاريخ الأدب العربي لم ينقل لنا أن حبيبة أمرؤ القيس عادت إلى حياته بعد وقوفه الطللي على أبواب مدينتها، ولم يذكر ابدا أن القيس حظي بمن هي أفضل منها من بعدها، كفانا هو في شعره بالوقوف والبكاء.

لعل حال نخبة كبيرة من التونسيين لا يختلف كثيرا  عن حال امرؤ القيس، من السياسيين إلى الاعلاميين والى كل من تعلق شأنه بالسياسة والاختيار وتفاصيل الشفافية والحوكمة، فهذه الفئة اليوم تتوقف على أطلال الديمقراطية، فلنقل على أطلال مكاسب حرية التعبير ومناقشة الفاعلين السياسيين في قراراتهم.

هذه الفئة اليوم تفتقد حقها في النفاذ إلى المعلومة الولوج إلى مصادر المعلومات، بل انها في بعض الاحيان تحال على أنظار القضاء بسبب تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحاكم بناء على تصريحات اعلامية.

نعم، هكذا هي الوضعية اليوم شئنا أم أبينا، فالوسيط الوحيد اليوم بين الرأي العام التونسي والرئاسة هو العالم الأزرق الذي يمارس عبره الرئيس قيس سعيد اتصاله وليس تواصله، يوميا يتم بث مقاطع فيديو عبر صفحة الرئاسة يتحدث فيها الرئيس عن ارادة الشعب التونسي ومعارضته لاجراءات كان يمكن له أن يبدلها بجرة قلم.

وفي أغلب الاحيان يقوم الاتصال على الاعلام دون الاستجابة إلى ردود الفعل، نعم يتوجه الرئيس في كل فترة بخطابات إلى الرأي العام التونسي دون أن يستقبل من المتقبل رؤية أو فكرة، انما يواصل في احتكار الكلمة دون الانتباه إلى رد الصدى أو ما يعرف بتفاعل الأخر حول تلك الافكار والقرارات.

من هذا المنطلق، في تونس اليوم يتوقف العديد على أطلال ذلك التواصل المهم، يبكون باستمرار باعتبار أن ذلك المكسب الوحيد لم يتحقق الا في تونس من بين كل الدول العربية التي شهدت انتفاضات شعبية انطلاقا من سنة 2011 ، لكن في الأثناء يبدو أن انتكاسته اليوم أصبحت واردة خاصة الخطابات الأخيرة عن وزير الداخلية توفيق شرف الدين.

انقلاب على السلطة.. الرابعة!

من المفارقات العجيبة في تونس أن يعلن الخطاب الرسمي تخوينه للإعلام ووصمه بأنه كان فاعلا في التآمر على أمن الدولة والإرهاب ، وهو نفسه الوسيط الذي دفع بالرئيس التونسي قيس سعيد للوصول إلى السلطة في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة.

نعم، فالرئيس وقبل أن يعتلي سدة الحكم، كان يظهر على تلك المنابر الإعلامي الموصومة بالخيانة ليقدم تحاليله وانتقاداته وقراءاته في تفاصيل فصول الدستور بصفته أستاذا متخصصا في القانون الدستوري وهو نفسه اليوم الذي يرفض كل أشكال المقابلات الصحفية.

وإضافة إلى تحاليله السياسية والقانونية كان الرئيس قيس سعيد هو نفسه الذي شارك في المناظرات الرئاسية التي تم بثها عبر شاشات التلفاز وكان قد حضر في مناسبات عديدة على وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.

بناء على ما سبق، فإن الرئيس في هكذا سياق وعندما يتحدث هو عن المتآمرين ويتحدث وزير الداخلية توفيق شرف الدين عن تآمر الإعلام على أمن الدولة فإنه وبطريقة واضحة يوجه ذات التهم إلى نفسه خاصة وأنه ظهر في تلك الوسائل “المتآمرة على أمن الدولة والخائنة للوطن” وهو الأمر الذي لا يستقيم خاصة وأن هناك عملية تواطؤ في المسألة بين “الإعلام الخائن” وخطاب الرئيس عبر من عينه وزيرا للداخلية.

وبالعودة إلى  زيارته إلى مدينة بنقردان بمناسبة إحياء ذكرى ملحمة بنقردان توجه وزير الداخلية توفيق شرف الدين إلى الشعب التونسي بدعوة مفادها  الكف عن متابعة الصحف و الإذاعات والتلفزات، بتلعة أن تلك الوسائل كانت قد تأمرت على أمن الدولة وكانت مسؤولة عن عديد العمليات الارهابية.

إذا ما توقفنا عند هذا الخطاب فإن شرف الدين يبطل بهكذا خطاب سياق شرعية أي مسار في البلاد مهما كان نوعه بإعتبار وأن الإعلام كان فاعلا في كل المراحل والمسارات، نعم، بحسب خطاب الوزير فإن كل من ساق خطابا إلى الرآي العام التونسي عبر الإعلام هو متعامل مع هؤلاء المجرمين ومن ثمة فاعل في الجريمة بحسب ما يقتضيه المنطق القضائي.

من جهة أخرى لو توقفنا عند ردود أفعال هذا الخطاب لوجدنا صورة الصحفيين اليوم في أعين كل من سلموا بخطاب الوزير، مجرمين ومتأمرين على أمن الدولة، ولنتساءل معا كيف يمكن لردة الفعل أن تكون في حال إقبال أحد الصحفيين على الاشتغال على أي ظاهرة أو موضوع في أحد الفضاءات العامة.

من المرسوم عدد 54 المتعلق بمكافحة الأخبار الزائفة إلى الخطاب الرسمي الصادر عن وزير الداخلية توفيق شرف الدين تحول العمل الصحفي في تونس إلى جريمة يعاقب عليها القانون بالمرسوم المذكور  ويعاقب أي كان بناء على ما وصم به الوزير الصحفيين والاعلاميين في تونس.

بناء على ما سبق نلاحظ جيدا أن الرئيس عبر فريقه الحكومي – خاصة وأنه هو صاحب التعيين والعزل – قام بالإنقلاب على الإعلام الذي دفع به للفوز في الدور الثاني من الإنتخابات الرئاسية ضد المرشح نبيل القروي، وهو نفسه الذي صقل ملامح شخصيته السياسية على مدار السنوات العشر الماضية.

وفي نفس السياق جدير بالذكر أن مناخ الحريات الذي أوقفه الرئيس منذ فترة هو نفسه المناخ الذي أتاح له التحليل والتعريف بنفسه عبر المنابر الإعلامية وبالتالي تقديم نفسه إلى الجمهورية، يعني أن سعيد بعد أن تمتع بحرية التعبير التي أكسبته رغبة التونسيين في اختياره إنقلب عليها معتبرا إياها عشرية الدمار والخراب.

هكذا هي الوضعية صارت في تونس، معادلة معقدة يبدو أن الخروج منها يظل رهين المرحلة المقبلة، أن يسقط البرلمان الجديد المرسوم سيئ الذكر ويعمل أكثر على الحد من خطابات الكراهية والتحريض المكررة دون وجود براهين قطعية عن تورط أي من هؤلاء في قضية ما أو أن يتواصل هذا المسار وتندلع المحاكمات خارج الأطر القانونية والمكانية والزمانية ويظل العالم في تونس مبنيا على رئيس ووزراء يخاطبون الشعب دونما أي أجسام وسيطة.

نعم هي معادلة تقوم بالأساس على أن يصير الرئيس قيس سعيد هو الصحفي الوحيد، كاسر تلك القواعد المتعلقة بطرح الأسئلة والإعداد التي تدرسها مراجع الصحافة في العالم، فهو نفسه الذي لا يجيب عن الأسئلة، ويرفض بإستمرار الجلوس على طاولة المساءلة في شاشات التلفزيونات والإذاعات، إنه وحكومته يختارون الحديث والإجابة عن الأسئلة التي يريدون، ثم يوجهون التهم إلى وسائل الإعلام التي لا تتوقف عن نقل تصريحاتهم وتحركاتهم.

“هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم”، هكذا تساءل عنترة بن شداد عندما وجد الشعراء يتوقفون على نفس القواعد في الشعر، تساءل عنترة، هل يفكر الشعراء في التغيير، في هذا الوقت بالذات ما أحوجنا القول هل غادر الرئيس من متردم..؟ فالبقاء في هذا المسار يعني تبشيرا بشكل سياسي جديد يقتضي رحيل كل الأجسام في الدولة، وبقاء سعيد والشعب..

اسكندر نوار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى