في مؤلفه الشهير بعنوان “نظام الخطاب” يقول المفكر الفرنسي المعروف ميشال فوكو “نعلم جيدا أنه ليس لنا الحق في قول كل شيء، ولا الحديث عن أي شيء وفي أي مناسبة.. ثمة قدسية الموضوع، وطقوس المقام، وحق الفضلية، أو حق التفرد الذي يتمتع به المتحدث”.
يبدو أن الرئيس بخطاباته وقراراته الأخيرة المتعلقة بإيقاف عدد من الشخصيات السياسية خرج عن كل السياقات التي أشار إليها فوكو، خاصة إذا ما افترضنا أن السياق هو المالي والاقتصادي البحت الذي لا يترك لتونس حلا غير التوصل إلى قرض مع الصندوق.
بناء على فحوى خطاب الرئيس، ربما تكون هذه لحظة ملائمة لإعادة التفكير من قبل أمثال فوكو في طرق هذا النوع من الخطاب الذي اعتمده الرئيس، كخروج جديد عن تلك الأنظمة المضبوطة والسياقات المحددة، نعني بما يفرضه الوضع المالي والاقتصادي بتونس.
هل يقف الرئيس ضد الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وضد الحكومة؟
في لقاءه الأخير برئيسة الحكومة نجلاء بودن، كان من المفترض أن يتحدث الرئيس في سياق ما تسعى إليه الحكومة وما رسمته ملامح قانون المالية لسنة 2023، أي كل السياقات الموضوعة والإجراءات المتعلقة ببرنامج الإصلاح الهيكلي التي تسعى الحكومة إلى تطبيقه حتى يتسنى لها الوصول إلى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لكن الغريب في الأمر هو أن الرئيس في أخر خطاباته خرج عن هذه السياقات، ليعرب عن عدم حاجته إلى التمويلات.
نعم، في لقاءه المثير للجدل، توجه رئيس الجمهورية بكلمة إلى بعض الأطراف الخارجية التي وصفها بأنها تتدخل في الشأن التونسي، ويأتي هذا في إشارة إلى الخارجية الأمريكية عقب تصريحاتها التي اعربت عن قلقها إزاء ايقاف نشطاء سياسيين في البلاد ورجال أعمال وشخصيات اعلامية.
وردا على ذلك صرح الرئيس بالقول أن تونس ليست في حاجة إلى مثل تلك المساعدات وأنها قادرة على تشخيص الداء وايجاد الوصفة الطبية من الداخل، وكأنما في خطابه إشارة إلى الاتفاق مع صندوق النقد الذي تعمل عليه الحكومة التونسية منذ أكثر من عام، داعيا في الأثناء هذه الدول بمؤسساتها المالية إلى اعفاء تونس من الديون في حال كانت تفكر في مصلحة الشعب.
بناء على ما ظهر في الخطابات الأخيرة فان الرئيس خرج عن سياق الخطاب وهو الحرص على إيجاد حل عاجل مع الصندوق حتى تتمكن تونس من الحصول على قرض يشعل لها إشارة الضوء الخضراء مرورا إلى التمويلات الأجنبية المباشرة من قروض وهبات، وتجنيبا لها من الدخول في منعرج “نادي باريس”، لكن الرئيس يظهر علينا في مظهر المعارض حتى لسياسة الحكومة التي تولى هو بنفسه تعيينها وهو الأمر الذي يدفع بنا إلى إعادة التفكير في ما أراد أن يقوله، أو بالأحرى اعادة الفكير وطرح سؤال هل أن الرئيس قيس سعيد هو معارض لسياسية الحكومة أم رأس السلطة التنفيذية في البلاد.
في خطاب الرئيس.. المتهم مدان الى أن تثبت إدانته
لم يكن خطاب الرئيس بخصوص الاتفاق مع الصندوق هو الأمر الوحيد الذي كشف لنا عن تعارض بين توجهات الحكومة وسياسته، وإنما أيضا خطابه الذي سبقه بمقر وزارة الداخلية على إثر عملية إيقاف مجموعة من الشخصيات السياسية ورجل الأعمال كمال اللطيف ومدير إذاعة موزاييك نور الدين بوطار.
نعم، في هذه الوضعية وعندما نعود إلى سياق أو ماهو متفق عليه في إجراءات المحاكمة على الصعيد الدولي فإن قرينة البراءة تضمن الحق في محاكمة عادلة لأي انسان موجود في العالم، ثم إن تونس من ضمن الدول التي كانت قد صادقت على مواثيق دولية تفرض عليها احترام إجراءات المحاكمة العادلة.
بالعودة إلى الخطاب من مقر وزارة الداخلية وبعد عملية الإيقاف ودون أي تأكيد أو نفي من قضاة التحقيق، قال الرئيس بأن الموقوفين خونة وإرهابيون، وقد تم ضبطهم بالأدلة بأنهم تأمروا على أمن الدولة ويخططون لاغتيال الرئيس، دون أي احترام لإجراءات المحاكمة العادلة.
حيث لم يتوقف الرئيس على قرينة البراءة التي تقول بأن المتهم بريئ إلى أن تثبت ادانته، بل إنه تجاوز كل هذه الخطوط المرسومة ليشن حربا بخطابه قبيل حتى التأكد أو التأكيد للرأي العام التونسي لصحة هذه التهم حتى وإن كانت صحيحة بالفعل، ثم يشير الرئيس في نفس الخطاب بأنه احترم كل الإجراءات القانونية وأن التحقيق يحدث في أفضل الظروف.
إذا ما توقفنا عند الفعل والخطاب والسياق، سنجد أن الرئيس يتحدث في خطابه عن ماهو غير موجود في الفعل، كما يشير في خطابه إلى السياق الذي لم يلتزم به، وعندما نتحدث عن السياق في الخطابين فإننا نتحدث عن قرينة البراءة وما تنص عليه الاتفاقيات الدولية وحقوق الانسان وأيضا مسار مفاوضات حكومته مع صندوق النقد الدولي فإننا نتحدث عن تعارض كبير في ماهو موجود وماهو في خطاب الرئيس وماهو على أرض الواقع.
يطغى الغموض على المرحلة الحالية بدرجة كبيرة، وقد يجعلنا هذا أمام فرضيتان دون غيرهما، الأولى وهي أن الرئيس قيس سعيد هو الرجل الوحيد الذي يسير في حقل من ألغام الإدانة والفساد ويسعى بكل الطرق إلى المكافحة والنجاة بالبلاد إلى بر الأمان في زخم الدولة العميقة التي تفرعت عروقها في كل المؤسسات والثانية هي أن الرئيس فشل في إدارة كل الأوضاع من السياسي إلى الاقتصادي والاجتماعي وهو الأمر الذي جعل خطابه يخرج عن كل السياقات، ومع هاتين الفرضيتين تظل الإجابة عنهما بناء على ما سيحدث مستقبلا في البلاد.