بعد مرور العام تقريبا على المحادثات ثم المفاوضات، أحرزت الحكومة التونسية تقدما مهما على مستوى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لتكون النتيجة في الأخير اتفاقا على مستوى الخبراء يظل رهين الموافقة النهائية من طرف إدارة الصندوق، بتمويل قيمته 1،9 مليار دولار لحل الأزمة التي تعيشها تونس منذ مدة وعلى مدار 48 شهرا انطلاقا من ديسمبر القادم.
أثار هذا الاتفاق جدلا شاسعا في الساحة السياسية والاقتصادية التونسية، فلعله بطاقة الأخير للمسار الذي دخل فيه الرئيس التونسي قيس سعيد منذ إعلانه الإجراءات الاستثنائية في جويلية 2021، باعتبار أن الاتفاق سيشكل – بناء على آراء الخبراء “قنطرة” عبور تونس إلى ثمار تيكاد الاستثمارية وتسهيلات التمويل على مستوى العالم ككل.
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي “عز الدين سعيدان” بأن هذا الإتفاق مع الصندوق لا يزال اتفاقا مبدئيا، معتبرا إياه في الأثناء خطوة أساسية لتحويلها إلى موافقة نهائية لاحقا حسب تعبيره.
ورأى سعيدان أيضا بأن الاتفاق ليس بالحل النهائي أو الكافي لإخارج تونس من أزمتها الإقتصادية، خاصة وأن تونس لا يمكنها الحصول على أكثر من 2 مليار دولار خلال سنوات 2022 و 2023 و 2025 حسب نظام الصندوق.
واعتبر سعيدان أيضا بأن البلاد في حاجة إلى قروض أخرى تبلغ قيمتها 25 مليار دينار حتى تحقق تعبئة موارد الميزانية حتى نهاية السنة الحالية، مشيرا في نفس الوقت إلى أن سنة 2023 ستكون صعبة جدا من حيث مستحقات الدين الأجنبي.
وتساءل سعيدان في الأثناء عن قانون الميزانية التكميلي لهذه السنة وقانون المالية لسنة 2023 الذي لا زالت ملاحمه غامضة إلى حد اللحظة الحالية.
من جانبه علق الخبير الاقتصادي عبد الرحمان اللاحقة، في تدوينة له عبر صفحته الرسمية على “فايسبوك” عشية الاعلان عن الاتفاق، بأن القرض الحالي الذي توصلت إليه الحكومة التونسية يدخل في إطار “التسهيلات الانتمائية الموسعة ” وهو يعكس ضعف ثقة الصندوق في قيام تونس بالإصلاحات الضرورية التي تعهدت بها خلال المفاوضات.
وأشار اللاحقة بأن هذه التسهيلات تختلف عن اتفاقيات الاستعداد الائتماني التي تقدم مرونة في تحديد المدة التي تكون في الأغلب بين 12 و24 شهرا ولا تتجاوز 36 شهرا، وبالتالي فإن “التسهيلات الائتمائية الموسعة ” تكون غالبا موجهة للدول المدعوة للقيام بإصلاحات عميقة وهيكلية حسب تعبيره، ولعل هذا ما يؤكد التصريحات العديدة التي راجت مؤخرا حول الإصلاحات الموجعة التي يمكن أن يفرضها صندوق النقد الدولي.
وكشف الخبير بأن مدة سداد هذا النوع من القروض تكون أطول وتتراوح بين 4 و10 سنوات، مشيرا إلى أن الصندوق إختار أن يكون الاتفاق على 4 سنوات عوضا عن 3 سنوات كما هو معتاد وهو ما يعكس ضعف الثقة في قدرات الحكومة الحالية على تطبيق الإصلاحات مع ضرورة أن يبقى الاقتصاد التونسي فترة أطول تحت رقابة الصندوق.
وكتب اللاحقة “قانونيا كان يمكن الحصول على قرض 1 مليار سنويا أو 4 مليار على مدة 4 سنوات وهو ما يمثل 145% من حصة تونس في الصندوق لكن هذا الأخير اختار أن يعطي نصف المبلغ القانوني أو المطلوب وهو ما يعكس مرة أخرى ضعف ثقة الصندوق في قدرة تونس على السداد.. للعلم وحسب لوائح الصندوق لا يمكن أن تتجاوز الإلتزامات الجملية لبلد ما 435% من حصته في الصندوق بإعتبار القروض الغير مسددة”.
واوضح اللاحقة أيضا بأن نسبة الفائدة ستكون في حدود 3.155% (2.155 نسبة فائدة حقوق السحب + 1%) إضافة إلى 0.15% من المبلغ الجملي (تكاليف دراسة الملف) و- 0.5% على كل شريحة مسحوبة من القرض.
في الجانب السياسي، قال اللاحقة بأن الصندوق إختار أن يرحل الإتفاق النهائي لشهر ديسمبر وعلى الأرجح بعد “الانتخابات” بسبب غياب رؤية واضحة حول الوضع السياسي في البلاد والتطورات المستقبلية واحترام أسس الديمقراطية واحترام الحريات، خاصة في ظل الأحداث الأخيرة والتضييقات التي يتعرض لها المجتمع المدني.
من جانبه، اعتبر الكاتب الصحفي المتخصص في الشؤون الاقتصادية هادي الحريزي أن الاتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي يلبي تطلعات الحكومة في المحافظة على تعاون موثوق ودائم، واعتبر أنه يفتح الباب أمام إمكانية تعبئة موارد مالية خارجية من خلال الاقتراض الأجنبي، سواء متعدد الأطراف من قبل جهات تمويل إقليمية أو بنوك تابعة لتكتلات مالية وكذلك من طرف بلدان عبر قروض وهبات.
وأوضح الحريزي “الأكيد أن الحصول على التمويل في مرحلة لاحقة هو الأهم، إيرادات العملة الصعبة ستنتعش بفعل تحويل أقساط التمويل من القرض كما أن نسبة الفائدة من تمويلات القروض الأجنبية ستنخفض بموجب الضمان المالي للقرض هذا في مرحلة مالية جد حساسة”.
ورأى الحريزي بأن الحكومة ستظهر في موقف داخلي متزن بعد نيلها ثقة أكبر المانحين وإن ظلت هذه الثقة مشروطة بتنفيذ اصلاحات.
وحول الانتقادات التي توجهها المعارضة حول هذا الاتفاق، قال الحريزي “وان كان جزء منها في السلطة قبل 25 جويلية إلا أنه ساهم بقسط كبير في الاقتراض الخارجي كما هو الحال اليوم”.
وقال الحريزي أيضا: “معلوم أن الخيارات محدودة أمام السلطة التي تريد من جهة اكتساب ثقة الصندوق ودعمه المالي ومن جهة ثانية ترغب في تحقيق إصلاحات تفضي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية للبلاد”.
وأردف الحريزي قائلا: “جزء آخر من المعارضة مناوئ بشدة للتعامل مع الصندوق وهو لا يطرح بدائل واقعية إذ لا يمكن بأية حال سداد النفقات الكبرى وتحقيق نمو دون التعويل على القروض الخارجية في وقت بدأ فيه الاقتصاد بالتعافي تدريجيا”.
وحول قيمة هذا الإتفاق في رصيد الحكومة الحالية على ضوء الأوضاع الاجتماعية الصعبة والعجز في الموازنة، صرح الهادي “غير مستبعد ان تمول الحكومة قسط ولو محدود من القرض لتمويل الاحتياجات الاجتماعية ودعم الخدمات الأساسية، من ذلك الصندوق يسند تمويلات طبق شروط”.
وأوضح ” لا بد من الإقرار أن تدهور الأوضاع المعاشية مس بدرجة كبيرة المواطنين من صنف الإجراء، هذه نتيجة لركون السياسات الحكومية وتخلفها عن تطبيق الالتزامات تجاه الصندوق، حيث ان التأجير استنزف كل مخصصات الاستثمار العمومي حتى أضحت الحكومة عاجزة عن تمويل إحداث مناطق صناعية وتركيز نسيج خدماتي متنوع يمنح المبادرة الخاصة واليد الطولى في تفتيت الاقتصاد التقليدي الذي راكم اليد العاملة في بيئة عمل غير منتجة ومحدودة الأهلية”.
وعن مدى تأثير هذا الاتفاق على سياسة رئيس الجمهورية وعلى مسار الإنتخابات، قال الهادي الحريزي” رئيس الجمهورية لا دراية له بالملفات الاقتصادية وهو يمنح وزراء الاختصاص كل الصلاحيات، وكذلك يفعل مع محافظ البنك المركزي ورئيسة الحكومة”.
وواصل “بالنسبة لسياسته في المجال الاقتصادي، أعتقد لا يمكن أن توصف قراراته أو تصريحاته بأنها نابعة عن خطة عمل أو رؤية للوضع الاقتصادي، بل ربما هو يطرح مقاربة لا يمكن أن تبوب ضمن خانة السياسات الاقتصادية، ثم إن محورها الأساسي يرتكز على إنشاء ما يعرف بالشركات الأهلية وكذلك هو يطرح الصلح الجبائي لاسترداد الأموال المنهوبة وكلا الفكرتين لا أعتقد أنهما تتسمان بالواقعية”.
قد يعتبر الاتفاق ههنا مع صندوق النقد الدولي خطوة مهمة بالنسبة للدولة التونسية والميزانية في الظروف الحالية، خاصة وأن المعادلة تبدلت على إثر جائحة كورونا والحرب الأوكرانية، وهو الأمر الذي يدعو الحكومة التونسية إلى مزيد البحث عن تمويلات وقروض من مؤسسات مالية إقليمية وعالمية، فلعل هذه الخطوة هي بمثابة الضوء الأخضر بالنسبة لحكومة نجلاء بودن لنيل ثقة المانحين الدوليين، وكسب استثمارات “تيكاد” وفي قادم الأيام “القمة الفرنكوفونية” وما يمكن أن تجلبه من استثمارات لتونس.
اسكندر نوار